ثقافة التحكيم عند التجار
من خلال حديثي بحكم تخصصي القانوني مع بعض رجال الأعمال، حول منازعاتهم التجارية والتي يعانون فيها من طول إجراءات التقاضي، إذ بي اتفاجأ بضعف ثقافتهم عن التحكيم التجاري، والذي يعتبر المنقذ لهم من كل صور المعاناة والإحباط التي لا ينفكون عن تردادها بل واجترارها عند الحديث عن المنازعات التجارية.
ولذلك، فإن التحكيم التجاري باختصار شديد أيها الكرام تجارًا أو مستثمرين أو غيرهم إنما هو شعبة من شعب القضاء وهو كالمحكمة الخاصة (مدفوعة الأجر) تختارون قضاتها وتلتزم لكم بإصدار الحكم خلال مدة وجيزة ويكون حكمها حكما نهائيًا لا يقبل الطعن فيه إلا من حيث الشكل وليس المضمون. التحكيم أقره الإسلام وهو نظام إسلامي أصيل للفصل في الخصومات، وقد نصت مجلة الأحكام العدلية العثمانية في مادتها رقم ١٤٤٨ على ذلك بقولها: (كما أن حكم القضاة لازم الإجراء في حق جميع الأهالي الذين في داخل قضائهم، كذلك حكم المحكمين لازم الإجراء على الوجه المذكور في حق من حكمهم وفي الخصوص الذي حكموا به، فلذلك ليس لأي واحد من الطرفين الامتناع عن قبول حكم المحكمين بعد حكم المحكمين حكما موافقا لأصوله المشروعة).
لذا، فإني أرى أنه لا حجة لرجال الأعمال (سعوديين أو أجانب في ظل نظام التحكيم السعودي الذي تم إصداره عام ١٤٣٣) في التذمر من طول إجراءات التقاضي في المحاكم السعودية ما دام أن شرط التحكيم بعقودهم سيجنبهم دخول أروقتها وسيجعلهم مع خصومهم يختارون قضائهم بأنفسهم والذين سيتميزون في الغالب في الاهتمام بما قصر فيه سلك القضاء وهو التعويض عن الضرر وفوات المنفعة ونحوها مما لا تزال ثقافته ضعيفة التصور.
وحتى لا يفهم الكلام الأخير في غير سياقه، سأوضحه بمثال مبسط، وهو شركة مقاولات تقوم ببناء بناية تجارية لكنها لم تلتزم بإنهائها حسب المدة المقررة وزادت سنتين فوقها وليس هناك أي خطأ من صاحب البناية، ودخل إيجارات البناية لو تم تأجير محلاتها ومكاتبها هو مليونا ريال، وعقد المقاولة هو سبعة ملايين ريال، فهل يصح الحكم على شركة المقاولات بدفع التعويض عن فوات هذه المنفعة وقيمتها أربعة ملايين ريال رغم أنها تعني خسارتها الكبيرة في عقد هذه المقاولة مهما علا ربحها فيها؟ والجواب أن التصور السليم بثقافة التعويض وفوات المنفعة سنجده غالبا عند المحكمين الخبراء بخلاف غيرهم الذين قد يستعظمون ذلك وقد يصوغ دفعهم بحجج اجتهادية تنطلق من الاحتمالية وغيرها. وهذا الكلام لست أقوله من فراغ بل من واقع عايشته وما زلت في سلك المحاماة والتحكيم.
ولذلك، فالتحكيم أيها السادة يقطع الطريق كذلك على حجة انصراف الشركات الأجنبية من إقامة استثماراتهم الضخمة لدينا وهي تخوفهم مما ذكرته أنها من طول أمد التقاضي وإهمال ما هو مشهور في بلدانهم كالتعويض عن الضرر وفوات المنفعة وغرامة المماطلة والتأخير ونحوها. التحكيم أيها الأفاضل فيه مجال واسع لاتباع أحدث الطرق من حيث السرعة في إجراءات التقاضي وسهولة تناول المذكرات والرد عليها كالمحكمة الإلكترونية دون حاجة الحضور الشخصي وغيرها من الأساليب. التحكيم قراره نافذ واجب النفاذ إلا مما يخالف الأحكام الشرعية القطعية أو النظام العام أو الإجراءات الصحيحة بالترافع وصحة التمثيل ونحوها، وهذه المحترزات في الغالب الأعم لا يجهلها المحكمون المؤهلون.
التحكيم يسرع في فض المنازعات لأن المحكمين عادة ما يكونون متفرغين للفصل في خصومة واحدة. التحكيم يحفظ خصوصية الخصوم وسرية المعلومات، فملف الخصومة بين الطرفين يبقى تحت علم المحكمين حصرا في حين أن جلسات التقاضي في المحاكم علنية، وهذا من شأنه أن يحفظ الأطراف النزاع سمعتهم وأسرار معاملاتهم. التحكيم يمكن الفرقاء المتنازعين من اختيار المحكمين برضا تام بحيث يشعر كل منهم بكامل الاطمئنان لأنهم اختاروا بإرادتهم من يحكم بينهم. التحكيم يؤدي إلى تلافي الضغينة والمشاحنة بين المتخاصمين – في الغالب حيث يأتي القرار الأقرب ما يكون للتراضي لأنه تم من محكمين حائزين على ثقة الجميع.
وعموما، فهذا المقال إنما هو إشارة عابرة لأهمية التحكيم للمنازعات التجارية، ونشر ثقافته، وليس دخولا في تفاصيله وتبقى عدة مسائل فيه لا بد أن ينتبه لها الذاهبون للتحكيم سواء عند تضمينه بالعقد أو بعد حدوث النزاع، ولعله أن تكون هناك مناسبات أخرى لذكر المزيد بخصوص ذلك.
لا تعليق